طعم الكرز !
طعم الكرز من الأفلام الإيرانية القديمة الجميلة، على رغم بساطة المشاهد، إلا أنه يحوي الكثير من الفلسفة، والرمزية، وهذا ما يتميز به المخرج عباس كيارستمي رحمه الله، الفيلم باختصار يدور حول شخص يائس يحاول الانتحار، ويبحث عمن يدفنه عندما يموت بجرعة زائده من الحبوب المنومة! وسيدفع لمن يدفنه المال!
إذا كنت لا تريد حرق الفيلم توقف هنا ولا تكمل المقال.
لن أتحدث عن الفيلم، وسأكتفي بما كُتب عنه، وهذا الفيلم من الأفلام التي يحتاج أن يُقرأ كل ما كتب عنها وأستنتج، لأن هذا النوع من الأفلام يترك لكل مشاهد تفسير الأحداث من خلال منظوره هو، وماذا فهم! لذلك المقالات التي كتبت عنه ستفيدك وستجعلك تفهم الفيلم أكثر وأكثر
اخترت مقالاً واحداً تحدث عنه، والباقي أترك لكم خيار البحث عنه.
(يندرج شريط «طعم الكرز» 1997 للمخرج الإيراني عباس كياروستامي ضمن ثلاثية سينمائية فريدة تتناول قضية «معنى الحياة» وما يرتبط بها من قضايا فرعية كالموت والانتحار والحب والسعادة) تستمر الحياة- تحت شجر الزيتون – طعم الكرز (وتذكرنا بالثلاثية الشهيرة)
الألوان (لكيشلوفسكي) عن تغيرات الوجود الإنساني بين اليأس والأمل.
يندرج العمل حسب التصنيف القبلي، ضمن الحساسية الجديدة في السينما الإيرانية، والتي بدأت منذ ستينيات القرن الماضي، معتمدة على شاعرية الحوار وعمق القضايا الفنية مع بساطة الفضاء السينمائي ومُباشرته، لكن – وطبعا – مع قدر هائل من الرمزية، ما يجعل الفيلم نفسه قابلا لتأويلات وإحالات خصبة.
تبدأ قصة الفيلم برحلة رجل في منتصف العمر «بادي» أو «بديع»، حيث يبحث عن شخص ليساعده لا نعرف في البداية أي مساعدة يحتاج بالضبط، فهو يقود سيارته – التي ستشكل فضاء سينمائيا مهما لمعظم المشاهد- في منطقة للمقالع الرملية، تتناسب ألوانها الصفراء القاحلة مع اختيار ألوان تصويرية خافتة وشاحبة. وفي لقاءات متنوعة بأنواع من الناس من قوميات مختلفة) كردية وتركية وأفغانية (نكتشف أن بادي يريد الانتحار بتناول كمية من الحبوب الطبية، والنوم في قبر حفره في ربوة صغيرة، وكل ما يطلبه هو شخص يأتي عند الفجر ليحيل عليه التراب إن كان ميتا (أو يساعده على النهوض إن كان حيا).
معظم مشاهد الفيلم مبنية على شكل حوارات، ما يعزز فرضية انتماء الشريط لتيار الحساسية الجديدة، التي تتبنى الحوار الشاعري والفلسفي كمادة لبناء المشاهد.
البسطاء يهربون من الموت:
يلتقي «بادي» أولا بجندي كردي شاب لم يبلغ العشرين، يخبره بأنه مستعد بأن يعطيه مبلغا ماليا كبيرا إذا قبل تفقّده في حفرة القبر عند الفجر وإحالة التراب عليه إذا وجده ميتا، لكن الجندي يفتح باب السيارة ويفرّ مذعورا، فالبسطاء لا يتقبلون فكرة الموت إلاّ كقدر، ومن المستحيل أن يستوعبوها باعتبارها اختيارا، أو هكذا بدا الأمر من ردة فعل الجندي. وقد مثل نموذجا أولا أو طبقة أولى من الناس، تعيش بدافع البقاء غريزيا، وتموت بمنطق البيولوجيا القهري.
الدين والتأويل المزدوج للانتحار
في اللقاء الثاني، يحمل بادي طالبا أفغانيا درس الشريعة في الكلية، ليوصله إلى مكان ما، وفي الطريق يقترح عليه الفكرة ويعرض المال، لكن هذه المرة لم يهرب الطالب، بل دخل معه في حوار، حيث يمثل الطالب طبقة ثانية تفكر في معاني الموت، لكن من زاوية مغلقة مرتبطة بالنص والمقدّس.
يحمل الحوار الذي دار بينهما دلالة وجودية، إذ يعرض لوجهتي نظر تأويليتين لموقف الدين والإله حول الانتحار.
# يمثل طالب الشريعة التأويل الأول والمطابق لظاهر النصوص القرآنية، إذ يوظف في خطابه الآية «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»، ويبني تأويله على حُرمة قتل الذات في التقليد الإسلامي، حيث يقول «إن الرب هو من يضع الروح داخل الجسد وهو وحده من يحق له سلبها منه». يوضح لنا هذا الموقف بالذات الثقافة الدينية العامة تجاه قضية الحياة، فهي مقدسة لأنها ليست غاية في ذاتها، وهي ليست ملكا للإنسان بقدر ما هي مُعطاة كأمانة واجب الحفاظ عليها
# الموقف الثاني أو التأويل الآخر ليس سوى تأويل «بادي» نفسه، إذ يُجيب الطالب الأفغاني:
«أنا أعلم أن الانتحار من الخطايا السبع، لكن أن يكون المرء تعيسا خطيئة أيضا، فحين تكون تعيسا أنت تؤذي الآخرين، عندما تؤدي عائلتك وأصدقاءك أليست تلك خطيئة؟ عندما أؤذيك ليست خطيئة وعندما أضع حدا لحياتي خطيئة؟».
تكشف وجهة نظر «البطل» (لا أعرف إن أمكن توظيف مصطلح البطل حول أفلام كياروستامي) عن تجربة المعاناة الفردية في الحياة، والتي تنتهي بفقد الرغبة المذاق، حيث يبلغ الفرد حالة الاقتناع بأن حالة اللاوجود ليست بالضرورة خطيئة، لكن كياروستامي لا يصدم متلقيه بتأويل عدمي مباشر لقضية الانتحار، غير أنه يُضَمِّنه في ثوب ربوبي، حيث يقول بادي للشاب الأفغاني مستعطفا:
«أنا أعتقد أن الله عظيم وأنه لا يريد أن يرى عباده يتعذبون، عظيم لدرجة أنه لن يُرغم مخلوقاته على العيش».
ينتهي الحوار برفض الشاب الأفغاني، ما يدفع البطل للتفكير برمي نفسه في مقلع للرمال كي تطمره الجرافات، لكن «أملا» يلوح في الطريق، حيث يصادف رجلا تركيا عجوزا يحتاج توصيلة لمقر عمله.
«حكمة الرضا ب القليل»
يعمل الرجل التركي العجوز في متحف قريب لمدينة صغيرة، وتبدو عليه علامات الوقار ونوع من الميل إلى التصوف، عبر قسمات شبه مستسلمة للقدر وملابس بسيطة.
في طريق إيصاله إلى المتحف، طلب بادي الشيء نفسه من الرجل، لكن هذه المرة – وعكس سابقاتها- يقبل الرجل العجوز بالعرض بدون مقابل مادي، وهذا القبول بدون مقابل يأخذ في تصوري رمزية مهمة، وهي احترام العجوز للإنسان بشكل عام، حتى في أحلك لحظات وجوده وأصعب قراراته. لكن هذا العجوز (غير العادي) يطلب من بادي أن يتخذ أطول طريق ممكن نحو المتحف، وهكذا ينشأ حوار شاعري طويل بين الرجلين، حوار يكشف عن تناقض جوهري بين الشخصيتين، يقول الرجل أولا:
«حين تساعد أحدا عليك أن تساعده من أعماق قلبك»
فيجيب بادي في يأس وهدوء:
«وفّر أحاسيسك لشيء أكثر أهمية»
هذا التناقض القائم بين ذاتين، هو تناقض بين موقفين وجوديين، يفصل بينهما اختلاف تأويل تجارب الحياة، والجميل في هذا المستوى من الحوار، أنه لم يطرح تناقضا بين موقف ديني وآخر لاديني، بل ابتعد عن اعتبار المحدد الإيديولوجي بصفة عامة، وركز على عنصر التجربة كفيصل، التعارض إذا بين موقف مستسلم للحياة، استثمر إذايتها وعبثيتها وشرورها في تقبلها ومحبة الآخرين، وموقف رفض عبثية الحياة واتخذ مسافة منها.
ربما حاول العمل الفني في هذا المستوى أن يخبرنا بأن قضية الحياة والانتحار لا تتعلق بالدين والإلحاد والعدمية، ولكنها تتعلق بتأويل التجارب الذاتية في الوجود، لذلك لم يحمل الحوار الأخير أية مسحة إيديولوجية ولم يوظف نصوصا بقدر ما وظف عنصر التجارب.
حكى عامل المتحف العجوز نكتة وقصة ذاتية لبادي. فما دلالتهما؟
# تدور النكتة حول رجل أينما وضع أصبعه في جسمه يشعر بالألم، فيعتقد أن كل أجزاء جسمه مريضة! لكنه حين يزور الطبيب، ينبّهه إلى أنّ في أصبعه كسرا صغيرا، وهو سبب الألم!
تحيل هذه السردية رمزيا إلى إشكالية الفكر والواقع، هل العالم كما نراه من منظورنا (منظور الأصبع المكسور) أم أنه مادة خام لها استقلاليها وقابلة لتأويلات كثيرة ومتنوعة؟ أراد العجوز أن يُخبر بادي أن نظريته السوداوية مقبولة كتأويل، لذلك سيساعده، لكنه أراد في الوقت ذاته أن يخبره أن هناك تأويلات أخرى لمصاعب الحياة وبرودها وعبثيتها، وربما أراد أن يخبره أن عبثية الحياة وغياب معنى فيها دافع إضافي لنعيشها بدون درامية بل بتذوق حتى أبسط ملذاتها.
# وسيتأكد الأمر حين يحكي العجوز قصته الذاتية مع الانتحار ل «بادي»
يخبرنا العجوز بأن صعوبة الحياة الزوجية وكثرة المسؤوليات والأطفال والصعوبات الاجتماعية دفعته مرة للانتحار، فاشترى حبلا وقصد شجرة كرز. وحين صعد ليربط الحبل وجد حبة كرز، وتزامن تذوقه لطعمها مع خروج الأطفال الصغار مهرولين من مدرسة قريبة، فتناغمت أصواتهم مع لذة الكرز في فمه، وفي الأخير قطف الكرز من الشجر وأخذه لزوجته وأولاده، وعدل عن فكرة الانتحار ومن هنا طبعا فكرة عنوان الفيلم «طعم الكرز».
قدمت التجربة التي حكاها العجوز عنصرا جديدا للبناء الدرامي في الفيلم، فقد بدا من ردة فعل بادي أن قرار الانتحار ليس بتلك السهولة التي ظنها، وأن هناك تأويلا مختلفا، ليس على ساذجا ولا ديكتاتوريا، وهو الأمر الذي عزز فرضية اعتماد كياروستامي على التناقض كمبدأ حيوي في الأفلام التي يكتب سيناريوهاتها بيديه.
يصل بادي ليلا إلى الحفرة التي صنعها وينام داخلها فتهطل الأمطار غزيرة ويخيم الليل على المشهد، ولا نعرف إن كان قد شرب الحبوب الطبية أو لا، كما لا نعرف إن كان لايزال يرغب في الموت أم أنه ذهب ليجرب إحساس الاستلقاء في القبر فقط. ينتهي الشريط السينمائي بذلك المشهد القابل لتأويلين متناقضين، وهي خاصية سيعتمدها كياروستامي كثيرا في أفلام أخرى، مثل «نسخة مُطابقة» مثلا، حيث لا نعرف إن كان البطل سيعود لزوجته أم لا، إذ يشكل العمل السينمائي عند كياروستامي مصدرا لطرح الأسئلة وعرض تضارب المواقف والآراء والمنظورات أكثر مما يشكل سرديات مُغلقة وإجابات).